فصل: من فوائد ابن عاشور في الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عاشور في الآيات:

قال رحمه الله:
{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن}.
عُطف {وبكفرهم} مرّة ثانية على قوله: {فبما نقضهم} [النساء: 155] ولم يُستغن عنه بقوله: {وكفرِهم بآيات الله} [النساء: 155] وأعيد مع ذلك حرف الجرّ الذي يغني عنه حرفُ العطف قصدًا للتأكيد، واعتبر العطف لأجل بُعْد ما بيّن اللفظين، ولأنَّه في مقام التهويل لأمر الكفر، فالمتكلّم يذكره ويُعيده: يتثبّت ويُرى أنّه لا ريبة في إناطة الحكم به، ونظير هذا التكرير قول لبيد:
فتَنَازَعَا سَبِطًا يَطِيرُ ظلالُه ** كدُخان مُشْعَلَة يُشَبُّ ضِرامُها

مَشْمُولة غُلِثَتْ بنابت عرفج ** كَدُخَان نار سَاطِع أسْنَامُها

فأعاد التشبيه بقوله: (كدُخان نَار) ليحقّق معنى التشبيه الأوّل.
وفي الكشاف تكرّر الكفر منهم لأنّهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلوات الله عليهم فعطف بعض كفرهم على بعض، أي فالكفر الثاني اعتبر مخالفًا للذي قبله باعتبار عطف قوله: {وقولهم على مريم بهتانًا}.
ونظيره قول عويف القوافي:
اللؤم أكرمُ من وَبْر ووالدِه ** واللؤمُ أكرم من وَبْرٍ وما ولدا

إذْ عطف قوله: (واللؤم أكرم من وبر) باعتبار أنّ الثاني قد عطف عليه قولُه: (وما ولدا).
والبهتان مصدر بَهَتَه إذا أتاه بقول أو عمل لا يترقّبه ولا يجد له جوابا، والذي يتعمّد ذلك بَهُوت، وجمعه: بُهُت وبُهْت.
وقد زيّن اليهود ما شاءوا في الإفك على مريم عليها السلام.
أمّا قولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، فَمحلّ المؤاخذة عليهم منه: هو أنّهم قصدوا أن يعدّوا هذا الإثم في مفاخر أسلافهم الراجعة إلى الإخلاف بالعهد المبيّن في سبيل نصر الدين.
والمسيح كان لَقبًا لعيسى عليه السلام لقَّبه به اليهود تهكّمًا عليه: لأنّ معنى المسيح في اللغة العبرية بمعنى المَلِك، كما تقدّم في قوله تعالى: {اسمه المسيح عيسى ابن مريم} في سورة آل عمران (45)، وهو لقب قصدوا منه التهكّم، فصار لقبًا له بينهم.
وقلب الله قصدهم تحقيره فجعله تعظيمًا له.
ونظيره ما كان يطلق بعض المشركين على النبي محمّد اسم مذمَّم، قالت امرأة أبي لهب: مذمَّمًا عصينا، وأمره أبينا.
فقال النبي ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم، يشتمون ويلعنون مذمّمًا وأنا محمد.
وقوله: {رسول الله} إن كان من الحكاية: فالمقصود منه الثناء عليه والإيمان إلى أنّ الذين يتبجّحون بقتله أحرياء بما رتّب لهم على قولهم ذلك، فيكون نصبُ {رسول الله} على المدح، وإن كان من المحكي: فوصفهم إيّاه مقصود منه التهكّم، كقول المشركين للنبيء صلى الله عليه وسلم {يَأيّها الذي نُزّل عَلَيْهِ الذكر إنَّكَ لمجْنون} [الحجر: 6] وقول أهل مدين لشعيب: {أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنَّك لأنْتَ الحليمُ الرشيد} [هود: 87] فيكون نصب رسول الله على النعت للمسيح.
وقوله: {وما قتلوه} إلخ الظاهر أنّ الواو فيه للحال، أي قولهم ذلك في حال أنّهم ما قتلوه، وليس خبرًا عن نفي القتل لأنَّه لو كان خبرًا لاقتضى الحال تأكيده بمؤكّدات قويَّة، ولكنَّه لمّا كان حالًا من فاعل القول المعطوف على أسباب لعنهم ومؤاخذتهم كانت تلك الأسباب مفيدة ثبوت كذبهم، على أنّه يجوز كونه خبرًا معطوفًا على الجمل المخبر بها عنهم، ويكون تجريده من المؤكّدات: إمَّا لاعتبار أنّ المخاطب به هم المؤمنون، وإمَّا لاعتبار هذا الخبر غنيًّا عن التأكيد، فيكون ترك التأكيد تخريجًا على خلاف مقتضى الظاهر، وإمّا لكونه لم يُتلقّ إلاّ من الله العالم بخفيّات الأمور فكان أعظم من أن يؤكّد.
وعطف {وما صلبوه} لأنّ الصلب قد يكون دون القتل، فقد كانوا ربما صلبوا الجاني تعذيبًا له ثم عفوا عنه، وقال تعالى: {إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... أن يُقتَّلوا أو يصلَّبوا} [المائدة: 33].
والمشهور في الاستعمال: أنّ الصلب هو أن يوثق المعدود للقتل على خشبة بحيث لا يستطيع التحرّك ثم يطعن بالرمح أو يرمى بسهم، وكذلك كانوا يزعمون أنّ عيسى صلب ثم طعن برمح في قلبه.
وجملة {ولكن شبَّه لهم} استدراك، والمستدرك هو ما أفاده {وما قتلوه} من كون هذا القول لا شبهة فيه.
وأنَّه اختلاق محض، فبيّن بالاستدراك أنّ أصل ظنّهم أنّهم قتلوه أنّهم توهّموا أنّهم قتلوه، وهي شبهة أوهمت اليهود أنّهم قتلوا المسيح، وهي ما رَأوه ظاهرًا من وقوع قتل وصلْب على ذات يعتقدونها ذات المسيح، وبهذا وردت الآثار في تأويل كيفيَّة معنى الشبه.
وقوله: {شبّه لهم} يحتمل أن يكون معناه: أنّ اليهود الَّذِين زعموا قتْلَهم المسيحَ في زمانهم قد شُبّه لهم مُشبَّه بالمسيح فقتلوه، وَنجَّى الله المسيح من إهانة القتل، فيكون قوله: {شبِّه} فعلًا مبْنيًّا للمجهول، مشتقًّا من الشبه، وهو المماثلة في الصورة.
وحذف المفعول الذي حقّه أن يكون نائب فاعل (شبّه) للدلالة فعل (شبّه) عليه؛ فالتقدير: شبِّه مشبَّه فيكون لهم نائبًا عن الفاعل.
وضمير (لهم) على هذا الوجه عائد إلى الذين قالوا: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم} وهم يهود زمانه، أي وقعت لهم المشابهة، واللام على هذا بمعنى عند كما تقول: حصل لي ظنّ بكذا.
والاستدراك بيِّن على هذا الاحتمال.
ويحتمل أن يكون المعنى ولكن شبّه لليهود الأولين والآخرين خبر صلب المسيح، أي اشتبه عليهم الكذب بالصدق، فيكون من باب قول العرب: خُيِّل إليك، واختُلِط على فلان.
وليس ثمّة شبيه بعيسى ولكن الكذب في خبره شبيه بالصدق، واللام على هذا لام الأجل: أي لُبس الخبرُ كذبُه بالصدق لأجْلهم، أي لتضليلهم، أي أنّ كبراءهم اختلقوه لهم ليبردوا غليلهم من الحَنَق على عيسى إذ جاء بإبطال ضلالاتهم.
أو تكون اللام بمعنى على للاستعلاء المجازي، كقوله تعالى: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7].
ونكتة العدول عن حرف على تضمين فعل شُبّه معنى صُنع، أي صنع الأحبار هذا الخبر لأجل إدخال الشبهة على عامّتهم.
وفي الأخبار أنّ (يهوذا الاسخريوطي) أحد أصحاب المسيح، وكان قد ضلّ ونافق، هو الذي وشى بعيسى عليه السلام وهُو الذي ألْقَى الله عليه شبهَ عيسى، وأنَّه الذي صُلب، وهذا أصله في إنجيل برنابي أحد تلاميذ الحواريين، وهذا يلائم الاحتمال الأول.
ويقال: إنّ (بيلاطس)، وَاليَ فلسطين، سئل في رومة عن قضية قتل عيسى وَصَلبه فأجاب بأنّه لا عِلم له بشيء من هذه القضية، فتأيّد بذلك اضطراب النّاس في وقوع قتله وصلبه، ولم يقع، وإنَّما اختلق اليهود خبره، وهذا يلائم الاحتمال الثاني.
والّذي يجب اعتقاده بنصّ القرآن: أنّ المسيح لم يُقتل، ولا صُلب، وأنّ الله رَفَعَه إليه ونجّاه من طالبيه، وأمَّا ما عدا ذلك فالأمر فيه محتمل.
وقد تقدّم الكلام في رفعه في قوله تعالى: {إنّي متوفّيك ورافعك إلَيّ} في سورة آل عمران [55] وقوله: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه} يدلّ على وقوع خلاف في شأن قتل المسيح.
والخلافُ فيه موجود بين المسيحيين: فجمهورهم يقولون: قتلته اليهود، وبعضهم يقول: لم يقتله اليهود، ولكن قتلوا يهوذا الاسخريوطي الذي شبّه لهم بالمسيح، وهذا الاعتقاد مسطور في إنجيل برنابي الذي تعتبره الكنيسية اليوم كتابًا محرّفًا فالمعنى أنّ معظم النّصارى المختلفين في شأنه غير مؤمنين بصلبه، بل يخالج أنفسهم الشكّ، ويتظاهرون باليقين، وما هو باليقين، فما لهم به من علم قاطع إلاّ اتّباع الظنّ.
فالمراد بالظنّ هنا: معنى الشكّ، وقد أطلق الظنّ على هذا في مواضع كثيرة من كلام العرب، وفي القرآن {إنّ بعض الظنّ إثم} [الحجرات: 12]، وفي الحديث الصحيح: «إيَّاكم والظنّ فإنّ الظنّ أكْذَبُ الحديث» فالاستثناء في قوله: {إلاّ اتّباع الظنّ} مُنقطع، كقول النابغة:
حَلفت يمينًا غير ذي مثنوية ** ولا عِلْمَ إلاّ حُسنَ ظنّ بصَاحب

يجوزُ أن يكون معطوفًا على قوله: {وما قتلوه وما صلبوه} ويجُوز أن يعطف على قوله: {مالهم به من علم}.
واليقين: العلم الجازم الذي لا يحتمل الشكّ، فهو اسمُ مصدر، والمصدر اليَقَن بِالتحريك، يقال: يَقِن كفرح يَيْقَن يَقَنا، وهو مصدر قليل الاستعمال، ويقال: أيقن يُوقن إيقانًا، وهو الشائع.
وقوله: {يقينًا} يجوز أن يكون نصب على النيابة عن المفعول المطلق المؤكِّد لمضمون جملة قبله: لأنّ مضمون: {وما قتلوه يقينا} بعد قوله: {وقولهم إنّا قتلنا المسيح} إلى قوله: {وما قتلوه وما صلبوه ولكنّ شبّه لهم} يدلّ على أنّ انتفاء قتلهم إيّاه أمر متيقّن، فصحّ أن يكون يقينًا مؤكّدًا لهذا المضمون.
ويصحّ أن يكون في موضع الحال من الواو في {قتلوه}، أي ما قتلوه متيقّنين قتْلَه، ويكون النفي منصبًّا على القيد والمقيّد معًا، بقرينة قوله قبله {ومَا قتلوه وما صلبوه}، أي: هم في زعمهم قتْله ليسوا بمُوقنين بذلك للاضطراب الذي حصل في شخصه حينَ إمساك من أمسكوه، وعلى هذا الوجه فالقتل مستعمل في حقيقته.
وضمير النصب في {قتلوه} عائد إلى عيسى ابن مريم عليه السلام.
ويجوز أن يكون القتل مستعملًا مجازًا في التمكّن من الشيء والتغلّب عليه كقولهم: قَتَلَ الخمرَ إذا مزجها حتّى أزال قُوّتَها، وقولهم: قَتَل أرضًا عالِمُها، ومن شعر الحماسة في بَاب الهجاء:
يَروعك من سعدِ ابن عمرو جُسومها ** وتزهَد فيها حين تقتلُهَا خُبْرًا

وقول الشاعر:
كذلِكَ تخبر عنهَا العالمات بها ** وقد قَتَلْتُ بعلمي ذلكم يَقَنا

وقول الآخر:
قتلتني الأيام حين قتلتها ** خبُرا فأبْصِرْ قَاتلًا مقتولًا

وضمير النصب في {قتلوه} عائد إلى العلم من قوله تعالى: {ما لهم به من علم}، فيكون {يقينًا} على هذا تمييزًا لنسبة (قتلوه).
ولذلك كلّه أعقب بالإبطال بقوله: {بل رفعه الله إليه} أي فلم يظفروا به.
والرفع: إبعاده عن هذا العالم إلى عالم السماوات، و(إلى) إفادة الانتهاء المجازي بمعنى التشريف، أي رفعه الله رفع قرب وزلفى.
وقد تقدّم الكلام على معنى هذا الرفع، وعلى الاختلاف في أنّ عيسى عليه السّلام بقي حيًّا أوْ أماته الله، عند قوله تعالى: {إنّي متوفّيك ورافِعك إليّ} في سورة آل عمران (55).
والتذييل بقوله: {وكان الله عزيزًا حكيمًا} ظاهر الموقع لأنّه لمّا عزّ فقد حقّ لعزّه أن يُعِزّ أولياءَه، ولمّا كان حكيمًا فقد أتقن صُنع هذا الرفع فجعله فتنة للكافرين، وتبصرة للمؤمنين، وعقوبة ليهوذا الخائن. اهـ.